الحرب على غزة- نهاية النظام العالمي وبداية فوضى جديدة؟

المؤلف: هشام جعفر10.26.2025
الحرب على غزة- نهاية النظام العالمي وبداية فوضى جديدة؟

في مطلع التسعينيات، ومع انتهاء الحرب الباردة، هلّل البعض لما اعتبروه نهاية للتاريخ، وبزوغ فجر "نظام عالمي جديد". لكن، يبدو أن العدوان المستمر على غزة يشكل إيذانًا بنهاية هذا النظام "الجديد" الذي بشرت به الولايات المتحدة الأمريكية.

لقد كشفت الحرب الدائرة على الفلسطينيين عن المأزق الإنساني العميق الذي يواجهه عالمنا اليوم، والذي يتخبط في فراغ وفوضى ناتجين عن ازدواجية المعايير التي قام عليها هذا النظام "الجديد"، وعن الصراعات المحتدمة حول المبادئ التي يجب أن تحكم هذا العالم. فبينما يرى الرئيس الروسي بوتين أن انهيار الاتحاد السوفياتي كان "أكبر كارثة جيوسياسية في القرن العشرين"، أرى أن الحرب على غزة تمثل كارثة مدوية للنظام العالمي القائم على الأسس التي وضعت بعد الحرب العالمية الثانية. إن البشرية على أعتاب حقبة جديدة لم تتضح معالمها بعد، ولكنها ستظل، في الوقت الراهن، تتسم بالانقسام والفوضى.

منذ سقوط جدار برلين في عام 1989، شهد العالم تحريرًا للأسواق، وتوسعًا في الحريات السياسية والحقوق الفردية، وثورة معلوماتية هائلة. وقد تعاضدت هذه الاتجاهات في خلق عالم أكثر اتصالًا وترابطًا. وكانت الأفكار التي انتشرت في أصقاع المعمورة خلال هذه الحقبة ذات طابع أمريكي، أو غربي على الأقل، مدعومة بالنفوذ والقوة الأمريكيتين.

لقد كان عالمنا، العالم الإسلامي، أو ما أُطلق عليه "الشرق الأوسط الجديد"، ثم "الشرق الأوسط الكبير"، هو المسرح الذي تجلت فيه هذه القوة.

تشير بعض التقديرات إلى أن التدخلات العسكرية الأمريكية المباشرة قد تسببت في مقتل ما لا يقل عن 400 ألف مدني منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول عام 2001. وتشير تقديرات أخرى إلى أن عدد القتلى غير المباشرين في مناطق الحرب التي تلت أحداث 11 سبتمبر/أيلول، بما في ذلك أفغانستان وباكستان والعراق وسوريا واليمن، يتراوح بين 3.6 و3.8 ملايين شخص، على الرغم من أن الرقم الدقيق لا يزال مجهولًا. وبذلك، يبلغ العدد الإجمالي للقتلى المباشرين وغير المباشرين ما بين 4.5 و4.7 ملايين شخص.

فهل ثمة علاقة بين هذا العدد الهائل من الضحايا وبين ما ترتكبه إسرائيل في غزة؟

لقد بدأت بوادر تحدي النفوذ العسكري الأمريكي في المنطقة منذ وقت مبكر. وكانت جذور هذا التحدي إسلامية ووطنية، وقامت به قوى من غير الدول، ومنظمات شبه حكومية. وقد بدأ ذلك في العراق عقب الاحتلال مباشرة في عام 2003، وتصاعد في أفغانستان بعد سقوط نظام طالبان في عام 2001، وصولًا إلى الانسحاب الأمريكي المهين من أفغانستان في عام 2021.

الآن، وفي ظل "طوفان الأقصى" والتأييد الأمريكي السافر لآلة القتل الإسرائيلية التي تتجاوز كل الحدود القانونية والإنسانية، يمكن إدراج سلسلة المواجهات مع إسرائيل في هذا السياق: الانتفاضة الفلسطينية الأولى (1987-1990)، والانتفاضة الثانية (2000-2005)، والحرب على لبنان (2006)، والحروب المتكررة على غزة، بما في ذلك حروب الأعوام 2008-2009، و2014، و2018-2019، والآن الحرب الشعواء المستمرة منذ عام 2023 وحتى يومنا هذا.

إنني أدرك تمام الإدراك القيود التي تعيق ترجمة الانتصارات العسكرية إلى مشاريع سياسية طموحة قادرة على تحقيق تطلعات شعوب المنطقة إلى الحرية والعيش الكريم، لكن للمرة الأولى في الحرب على غزة، تمارس القوة العسكرية الغربية، وفي القلب منها إسرائيل، فعل الإبادة الجماعية، كما أشارت إليه محكمة العدل الدولية، دون أي غطاء قيمي أو أخلاقي.

لطالما اعتمدت الولايات المتحدة على قوتيها الصلبة (العسكرية) والناعمة في قيادة النظام العالمي الليبرالي منذ الحرب العالمية الثانية، ولكن الفجوة بين هاتين القوتين قد اتسعت بشكل يصعب ترميمه إلا بجهود مضنية وموارد ضخمة وإرادة قوية، وهو ما لا أظنه متوفرًا حتى الآن، خاصة وأن هذا الانفصال يحدث في سياق أوسع يتمثل في وجود قوى داخل الغرب نفسه تسعى إلى تقويض النظام الذي قام عليه الغرب، بالإضافة إلى تحدي الهيمنة المعيارية الأمريكية/الغربية. فبعد ثلاثة عقود من الهيمنة الأمريكية في بناء القواعد، أعادنا صعود الصين وعودة روسيا إلى عصر التنافس بين القوى العظمى. إن المعارضة لأمريكا باتت واضحة للعيان في المجالين الجيوسياسي والقيمي على حد سواء.

مهددات النظام الليبرالي العربي

  1. تشهد الديمقراطيات الغربية موجة متصاعدة من الشعبوية غير الليبرالية التي تشكك في الانفتاح والعولمة والتجارة والهجرة والتنوع. وقد أدت هذه الموجة إلى ركود ديمقراطي عالمي، وارتفاع الرسوم الجمركية والحواجز التجارية، وتزايد العداء للهجرة والمهاجرين، وفرض قيود متزايدة على التكنولوجيا والوصول إلى المعلومات، وحتى التشكيك في الديمقراطية الليبرالية نفسها.
    إن صعود الشعبوية في الغرب يهدد جوهر أعظم إنجاز للسياسة والاقتصاد الغربي: إنشاء مجتمعات حرة وأسواق حرة في ظل سيادة القانون.
    ويضاف إلى التحدي المتمثل في دعم النظام الليبرالي على المستوى الدولي تحدي إضافي يتمثل في الدفاع عن المشروع الليبرالي داخل المجتمعات الغربية ذاتها، وهذان التحديان مترابطان بشكل وثيق.
  2. أكدت الحرب على غزة أن الاتحاد الأوروبي ليس لاعبًا استراتيجيًا يعتد به، وأنها استنزفت الكثير من قوته الناعمة. فمنذ تأسيسه، كان للاتحاد الأوروبي حلم كبير، لكنه لم يتمكن قط من التغلب على انقساماته والعمل كوحدة متماسكة.
    ومع "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، عاد الصراع الإسرائيلي الفلسطيني إلى الواجهة الأوروبية، مما كشف عن غياب المواقف الموحدة بين الدول الأعضاء وجذب انتقادات واسعة. فالاتهامات بازدواجية المعايير، والتردد في لعب دور أكبر في حل الصراعات، والدعم الفاتر لآليات المساءلة الدولية، والدعم الأوروبي المتضارب والمتردد في كثير من الأحيان للقانون الدولي وآليات المساءلة، مثل محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية، تجاه إسرائيل، أدت جميعها إلى مزيد من استنزاف "القوة الناعمة" الأوروبية، التي هي في نهاية المطاف رصيد غربي.
    ومما يزيد الأزمة تعقيدًا، الانتصارات التي حققها اليمين المتطرف في انتخابات البرلمان الأوروبي التي أُعلنت نتائجها في نفس يوم كتابة هذا المقال، مما ينذر بمزيد من الانقسام حول القيم الليبرالية.
  3. تسعى روسيا والصين، بالإضافة إلى بعض القوى الإقليمية مثل إيران، إلى تعطيل وتقويض النظام الدولي الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة والغرب، ويعتقدون أن القيم الغربية دخيلة على مجتمعاتهم وتقوض سلطتهم.
    ويرى فريد زكريا في مقال له في صحيفة "واشنطن بوست" أن "صعود الصين وعودة روسيا يجب أن يُفهما أيضًا على أنهما عملان من أعمال التوازن الثقافي، أي استجابات ليس فقط للهيمنة الجيوسياسية للولايات المتحدة على مدى العقود الثلاثة الماضية، بل أيضًا لانتشار الليبرالية في جميع أنحاء العالم". ويتابع: "وبعد سنوات من العولمة والتكامل، أعرب شي وبوتين، الرئيسان الصيني والروسي، عن قلقهما من انزلاق بلديهما من قبضتهما، ليصبحا أكثر تأثرًا بمجموعة من القيم العالمية مقارنة بالقيم التقليدية".
    إن هدف الصين وروسيا لا يقتصر على المواجهة والتنافس الجيوسياسي مع الغرب، بل يستخدم البلدان إحياء المكون الثقافي التقليدي لمزيد من السيطرة والتحكم الداخلي أيضًا، وهي معضلة متصاعدة في النظام الدولي الحالي. فغالبًا ما يستخدم الدكتاتوريون في كل مكان الخطابات المتمحورة حول الله والدين والوطن والقومية والنقاء العرقي لتأكيد واستمرار حكمهم، ولمزيد من التحكم والسيطرة على مجتمعاتهم.
    تثير روسيا والصين السخط المناهض للغرب في بلدان أخرى، كما يظهر في أفريقيا، مستغلتين ردة الفعل العكسية الموجودة بالفعل. ففي العديد من الأماكن، يُنظر إلى مشروع التنوير، الذي يشكل النظام الدولي الليبرالي جزءًا بالغ الأهمية منه، باعتباره إرثًا من الهيمنة الغربية.
  4. الهند، وهي من القوى الصاعدة في النظام الدولي بمساندة الغرب والولايات المتحدة للتوازن مع الصين، أصبحت، وهي القوة العلمانية الديمقراطية تاريخيًا، مختطفة بخطاب قومي هندوسي بقيادة رئيس الوزراء مودي. وصحيح أن الانتخابات الأخيرة التي أُعلنت نتائجها منذ أيام قد أوقفت تقدم حزبه بهاراتيا جاناتا، ولكنه، كما يؤكد المحللون، قد تمّ على أرضية مناهضة سياساته الاجتماعية المنحازة للأغنياء، وليس على أرضية مواجهة خطابه الهوياتي الإقصائي.

وهنا قد يكون من المفيد المقارنة مع الكيان الصهيوني الذي انتمى للغرب بحكم القيم المشتركة والمصالح المشتركة معًا. فإسرائيل، التي رُوِّج لها باعتبارها قلعة الديمقراطية الليبرالية التي يقود اقتصادها التكنولوجيا المتقدمة، لم تعد كذلك؛ بل أصبحت:

  • إسرائيل قومية يمينية متطرفة، ومتهمة بالإبادة الجماعية والفصل العنصري، ومطلوب قادتها للمثول أمام المحكمة الجنائية الدولية بتهمة ارتكاب جرائم حرب.
  • لا يتعلم ثلث أطفالها تعليمًا مدنيًا حديثًا، بل تعليمًا دينيًا مغلقًا يرفض المتخرج منه الانضمام إلى الجيش.
  • يحكمها رئيس وزراء متهم بالفساد، وقد مكث في منصبه أطول فترة في تاريخها كله.

الخلاصة:

يتوزع العالم على اتجاهات متناقضة، هي: الغرب الذي يسعى إلى نشر قيمه الليبرالية في مناطق أخرى، كما جرى في أوروبا الشرقية، لكنه يشهد تراجعًا داخليًا، وروسيا والصين الباحثتان عن قيمهما التقليدية لمواجهة الغرب، ولمزيد من التحكم والسيطرة على مجتمعاتهما. وهناك، بين هذا وذاك، دول وحركات، كما تجلى في الحراك المناهض للحرب على الفلسطينيين، تحاول أن تستعيد بعضًا من أسس النظام الدولي المبني على القواعد، وتدفع بالجديد منها.

فهل يمكن أن يكون ذلك طريقًا ثالثًا بين الاثنين؟

هذا ما يستحق أن نخصص له مقالًا جديدًا.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة